الطوبونيميا الأمازيغية في الأوراس والجزائر: بقلم : خديجة ساعد
تمنحنا الطوبونيميا فضاء شاسعا للتواصل مع الماضي والتصالح مع الحاضر ،
والتطلع إلى مستقبل أكثر انسجاما مع الذات والهوية ، فهي ذلك الحيز
الجغرافي ، والبنك اللغوي ، والشاهد التاريخي الذي يحفظ ذاكرة الأمة ويبقيها
حية نابضة .
إن الوضعية التي تتواجد فيها
الطوبونيميا الأمازيغية في الأوراس والجزائر عموما، تضعنا أمام واجب وطني تتداخل
فيه الإرادة السياسية مع الوعي الجماعي والعمل الأكاديمي الجاد ، من أجل إعادة الاعتبار
لهذه الواجهة التي يتقاسمها الجميع على إمتداد هذا الوطن وشمال أفريقيا ككل
الطوبونيميا الأمازيغية في الأوراس
تكتسي منطقة الأوراس أهمية بالغة في المجال الطوبونيمي ، والذي يستمد
أهميته من الزخم التاريخي والثقافي واللغوي لهذه المنطقة التي تعتبر القلب النابض
للجزائر ولشمال أفريقيا ككل ، فهي مهد ملوك الأمازيغ وبركان الثورات الذي لا يهدأ
، بحيث لا تمر فترة من التاريخ إلا وكان الأوراس في قلب الأحداث . كل هذه
الدينامية أثرت بشكل أو بآخر على التنوع الطوبونيمي للمنطقة من خلال تسميات لها
وزنها التاريخي الذي لا يمكن إغفاله مثل مدينة تيمقاد وتازولت و سطيف وقالمة
وخنشلة وتبسة وتهودة وبادس و إمدغاسن ومادور وجميلة وغيرها كثير جدا . فمن هذا
الحيز الجغرافي مر التاريخ وكتب صفحاته وأثرى المكان بتنوعه الطوبونيمي الذي قل
مثيله ، هذا التنوع وهذا الانفتاح كانت لهما أيضا إنعكاسات سلبيىة على بنية
الطوبونيميا وهويتها ، مما عرضها لحرب شرسة سواء من الدخلاء عبر مختلف المراحل ،
أو من قبل أبناء المنطقة أنفسهم ، فتم تدمير هذا الإرث العظيم عبر فترات مختلفة من
التاريخ سواء عن وعي أو عن غير وعي ، مما خلق هوة سحيقة بين المجتمع وهويته التي
تعتبر الطوبونيميا جزءا هاما من مكوناتها المتعددة .
ماهية الطوبونيميا
وطبيعتها :
تعتبر الطوبونيميا من العلوم الحديثة التي ظهرت في القرن التاسع عشر ،
وهي تهتم بأسماء الأماكن دراسة وتحليلا ، من حيث صياغتها ومعناها وتطورها . وذلك
بالاعتماد على عدد من الحقول المعرفية ، كالتاريخ واللغة و الأنثروبولوجيا
والجغرافيا . كما يتطرق هذا العلم إلى التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية
والسياسية التي طرأت على المجتمع عبر مختلف الحقب التاريخية ، وذلك من خلال ماهية
المكان وتسميته الطوبونيمية .
لفظ الطوبونبمبا من أصل إغريقي ، ويتكون من جزئين :
- : Topo ويعني الأرض
(المكان) .
- Onoma : ويعني الاسم .
ومنه تعني التسمية اسم المكان
، ويطلق عليه أيضا إسم علم الأماكينية ، ويسمى باللغة الأمازيغية Tasmidegt. وهو علم قائم بذاته ظهر في فرنسا بشكله الحالي ، من خلال عدد من
الأبحاث التي أجراها علماء وباحثون أوروبيون .
إن التنوع البيئي الذي يحيط بالإنسان من خلال التضاريس والمناخ والنبات
والحيوان ، وكل ما يمت له بصلة من حركة عمرانية واقتصادية واجتماعية ، جميعها لها
الأثر الفعال على الصيغ المختلفة للطوبونيميا . ولذلك يشمل هذا العلم عددا من
الأنواع التي تنضوي تحت جناحه :
- الهيدرونيم
(Hydronyme) والذي يدرس أسماء أماكن المياه كالوديان والبحيرات
والآبار مثل: Tanut، Iɤzeṛ ،
Tigelmamin
- الأورونيم
( Oronyme)ويهتم بالمرتفعات والقمم مثل: Icc Aziza، Ixf n Ssṛa ، Awrir .
-
الأودونيم ( Odonyme) هذا التصنيف يختص بالمسالك والمنافذ ، والشوارع والمعالم التاريخية مثل :
Abrid n Ujellid، Berrezgal ،imedɤasen
- الإجيونيم ( Hagionyme) وهو يهتم بأسماء الإعلام ذات
البعد الديني والروحاني مثل : Taɤit n Sidi Belxir ، Tajebbant n Betteryaf . هذا النوع غالبا ما يكون
مقترن بلفظ عربي بسبب التأثير الديني في المجتمع ، وتربطه علاقة وطيدة بالأنثروبولوجيا
.
- الإثنونيم ( Ethnonyme) ويختص بالأعراق أو بدراسة أسماء القبائل مثل : Mettusa،
Sedrata، Lewata .
البحث الطوبونيمي ، أهميته
ودوره العلمي :
يتسع مجال الطوبونيميا ليشمل
التغيرات التي طرأت على حياة الشعوب من الناحية الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية
، فهو المرآة العاكسة لكل حركية تصنعها الوقائع والأحداث المتعلقة بالإنسان
والمكان ، وهو ما من شأنه أن يوفر علينا الكثير من الجهد في مجال البحث والدراسة .
فعلم الطوبونيميا لا يمكن دراسته إلا بحضرة باقي الحقول المعرفية التي تكمله
وتدعمه ، إلا أنه في نفس الوقت لا يتوانى عن تقديم خدمات جليلة لنفس هذه العلوم
التي تربطه بها علاقة أخذ وعطاء.
1- الناحية اللغوية
:
بإمكان الطوبونيميا المساهمة في إعادة بناء اللغة من جديد وذلك من خلال
حمايتها لعدد من الألفاظ التي عجز المجتمع عن تداولها والحفاظ عليها ، بينما لعبت
الطوبونيميا دور البنك اللغوي الذي حفظ هذه الثروة الهامة بأمانة تامة ، وهو ما
يمكن أن نستغله في إعادة جبر ما لحق باللغة من أضرار . فطوبونيم خنشلة مثلا ما زال
يحفتظ بلفظ منقرض من معظم المتغيرات الأمازيغية وهو Axencal وجمعه ixencalen والذي يطلق على الفأس خاصة في منطقة Ayt Sellam بمدينة مروانة ولاية باتنة . هذه الكلمة مرتبطة
إرتباطا وثيقا بلفظ Axuni وجمعه ixuneyyen
والذي يطلق في الأوراس على الشخص الذي يكرس حياته لخدمة الزاوية وإمامها أو أحد شيوخها . وهي نفسها Xen التي تبدأ بها كلمة خنشلة ، بينما كلمة Cal تعني التربة ، والمعنى الكلي خادم التربة . نفس
المعنى يتعلق بالتسمية التي نجدها في اللغة الفرعونية من خلال إسم "أخناتون
" " Axnatun" التي تعني
المخلص للإله أو خادم الإله . فاللغة المصرية ذات مصدر حامي مثلها مثل الأمازيغية
التي تعني بها هذه الكلمة Xen , Axuni الخادم المخلص، ومنها نستشف
بأن خنشلة تدل على الأرض الزراعية
بامتياز.
كل هذا الترابط اللغوي
تفاجئنا به الطوبونيميا ، لتعمل بذلك على
إعادة اللحمة بين الكثير من المفردات التي نعجز عن ربطها ببعضها البعض .
2- الناحية التاريخية:
تشكل الطوبونيميا الذاكرة
الجماعية للأمة ، والدليل الملموس من أجل البرهنة على التجذر التاريخي للإنسان
المالك الأصلي للأرض ، فهي تدعم إحساس
الفرد والمجتمع بالإنتماء الحضاري لمحيطه ، وتمنحه الثقة والاعتزاز بهذا الموروث
الثقافي . فالطوبونيميا واجهة حية لذلك التفاعل التاريخي بين الإنسان والمجال الذي
يعيش فيه ، فمن خلال الجسور القوية التي تربط الطبوبونيم بالحدث التاريخي ، يمكننا
إستنطاق ذاكرة المكان ما يدعم تصويب أو تأكيد أو نفي الحدث التاريخي المرتبط به من
خلال هذا العلم .
إن وجود تسمية مثل Buɤyul في منطقة مروانة ، وهي تعني (صاحب الحمار) ،
تؤكد بلا شك الوقائع التاريخية المتعلقة بـ "مخلد بن كداد
اليفرني" الذي يُدعى صاحب الحمار (Buɤyul) أو Bu azid وتخليده في هذه المنطقة دليل على دور سكانها في ثورة هذه الشخصية ضد
الفاطميين
.
هناك أحداث تاريخية بإمكان
الطوبونيميا ان تؤرخ لها مثل Meṛz Izumam (محطم القلل ) وهو يؤرخ لمعركة طاحنة بين قبيلتين ببلدية مزيرعة ،
كذلك Tizi n Imaziɤen (تيزي
إمازيغن ) الواقعة بعين زعطوط ، والتي تطرح أكثر من سؤال من الناحية التاريخية
للتسمية ومدى تجذرها على أرض الواقع .
3- الناحية البيئية:
في كثير من الأحيان توفرلنا الطوبونيميا صورة وافية عن مناخ المنطقة - موضوع الدراسة - في الزمن الغابر والذي قد يتغير إلى نقيضه بعد
قرون مثل: Asrir Ileɤleɤ ( المكان المنبسط والرطب ) وهو موجود ببلدية
مزيرعة ولاية بسكرة ،Talmadt (المرج الصغير) وهو موجود بعدد من مناطق الأوراس
، وجلها لا تحمل حاليا نفس الصفة من الاخضرار والرطوبة ووفرة المياه ، بعد تغير
المناخ في السنوات الأخيرة .
كما يمكن لهذا العلم أن يقدم
خدمات جليلة للمصالح الهيدروليكية المكلفة بالتنقيب عن المياه ، بحيث توفر دليلا
قائما على وجود المياه في موقع ما من خلال
تسمية المكان ، خاصة مع التغيرات المناخية التي شهدها العالم مؤخرا ، فنجد : Mazzer (الشلال( ) Tiṭ عين الماء)
Igelmamen ( أحواض المياه...).
إضافة إلى هذا فالطوبونيميا تلعب دور حافظ البصمات ، وهي تقدم لنا صورة
مفصلة عن الغطاء النباتي الذي كان مختلفا عما هو عليه اليوم ، بحيث نجد تسمية Trubya ( نبات الفوة Garance) والذي
سُمي به جبل تروبيا بولاية تبسة ، ووجوده بمنطقة ما يدل على المكان الرطب
كثير المياه
،كذلك
تسمية Tidmamin التي
تطلق على أشجار الزعرور البري Aubépine والذي أنقرض من معظم المناطق بداية من ثمانينيات
القرن الماضي.
نفس الشئ ينطبق على التنوع الحيواني ، خاصة ما يتعلق بالحيوانات
المنقرضة من المنطقة مثل الأيائل والأسود والنمور فنجد تسمية Axennaq n weksel بعين
زعطوط ولاية بسكرة ، ويعني (مضيق النمر) وAqdiḥ n wudaden ببلدية غسيرة ولاية باتنة ويعني ( حوض الأيائل).
من الناحية الجيولوجية يمكن
للباحث أن يتعرف على تكوينات الصخور والجبال وتواجد المعادن من خلال تسميات
الأماكن ، فمنطقة تيفاش
Tifac بولاية سوق اهراس تطلعنا تسميتها على نوع من الصخور
الرملية المسماة Tafza,Tabza ، كذلك Abeqqa n Tlaxt (مكان الغضار ) ببلدية مزيرعة ولاية بسكرة والذي
يدل على نوع التربة الغضارية .
4- الناحية الآركيولوجية :
تطبع بعض التسميات بميزتها
العمرانية وما يتصل بها من قلاع وحصون مثل Leqseṛ, Qseṛ Bellezma (القصر
أو البرج ( ɤasṛu
) القلعة والقصر) وهذه التسميات هي إشارات واضحة إلى
إزدهار الحياة وإبداع الإنسان عبر التاريخ ، كما قد تكون دليلا على موقع أثري مثل Cir ( الأثر العمراني (
، Hencir (الكوم الترابي ) والذي
غالبا ما يخفي بقايا عمرانية لحضارات مرت بالمكان ، وتركت بصمتها التي يمكن
استنطاقها في مجالات التاريخ والهندسة المعمارية ، التي تم تصميمها خصيصا لتلاءم مناطق دون
أخرى .
5- الناحية الاجتماعية والإثنولوجية :
بعض التسميات تدلنا على الطرق التي كانت مستعملة في الماضي ، والتي تم
إهمالها لاحقا ، وهو ما يلفت الانتباه إلى أهمية بعض المناطق واستراتيجيتها ، خاصة
لدى المؤرخين الذين تمكنهم تلك المعطيات من إعادة بناء تصورهم عن الحركية التي
كانت سائدة خلال قرون خلت ، وعن وضعية بعض المدن من الناحية الاجتماعية والاقتصادية
. فنجد مسالك تحمل تسميات مثل :
Abrid n Ujellid (طريق
الملك ) و Taɤit (المنفذ عبر مضيق الوادي ) .
هذه التسميات تمكننا من الحصول
على إشارات هامة لتنقلات الأفراد والقبائل والجيوش ، عبر مسالك وطرق أصبحت منسية
حاليا ، فهي بذلك تشكل مفتاحا مهما لحل الكثير من الألغاز المتعلقة بالهجرات
البشرية من منطقة إلى أخرى.
هذه الحركية أيضا تتضح من خلال التسميات التي تتعلق بالقبائل
الأمازيغية ، وأماكن تواجدها وتوزعها الجغرافي ماضيا وحاضرا ، فنجد من ذلك تسمية
مزاتة
Mzata وهي قرية قرب مدينة أريس ونفس التسمية نجدها في مصر "مزاتة شرق
" ، وهي أماكن إستقرت بها قبيلة مزاتة الأمازيغية سواء في الأوراس أو في مصر ، وهو ما أورده إبن خلدون في كتاب العبر .
كذلك طوبونيم سدراتة Sedrata بولاية
سوق أهراس
والذي يتواجد بعدة نواح من الجزائر ، وهو مستمد من إسم
قبيلة سدراتة الأمازيغية .
انطلاقا من هذه التسميات يمكن
تتبع أثر هذه القبائل في إستقرارها وهجراتها و حروبها عبر عدد من المواقع التي لا
تزال تحمل اسمها عبر كامل الوطن .
6- الناحية
الأنثروبولوجية
:
هناك عدد
هام من التسميات الأماكينية يخضع تفسيرها إلى معتقدات راسخة في عمق المجتمع ، وهي
تعتمد على رموز ودلالات ثقافية لا يمكن تجاهلها ، كما لا يمكن نفي إرتباطها بتاريخ
المنطقة في جانب من جوانبها . هذه التسميات يمكنها لعب دور محوري في دراسة معتقدات
المجتمع وعلاقتها بالطقوس والشعائر الموغلة في القدم . إذ نجد تسمية
Tazṛut n war ( صخرة
الأسد ) ببلدية تكوت والتي ترتبط بالصراع بين الخير والشر ، مثلها مثل Tazṛut n Laẓ ( حجر الجوع) بنفس المنطقة
والذي يشير إلى توقعات غيبية تتعلق بنهاية الكون .
المرجع: خديجة ساعد: الطوبونيميا الامازيغية. أسماء و أماكن من الاوراس.
دار النشر أنزار. بسكرة ،الجزائر، 2017 ، المقدمة ، ISBN 978-9931-64-05-1